جوريّة ! ..
"
بخطواتٍ هامسة كشعاعٍ ينبعثُ نحو تلك الحجرة التي مازالت تحتفظُ برائحة الأعناق وهي تُصافح بعضها لهفةً وجوعاً , قدماهُ لا تكادُ ترتطمُ بالأرض تصعدُ كهواءٍ من أعماقِ الرّئة حتى يصل إلى الحلق ثم الشّفاهِ زفيراً ..
يسيرُ ببطءٍ وعجلة في آنٍ واحد, تُثقله الخشية أن يكون الخلافُ هذه المرّة هزّت عقاربَ الحب المؤقّتة على الصّدقِ والعتاب الحميد الذي يُصيب هدفه في كلّ مرة , يدفعهُ يقينه أنّ أنثاه صفحةٌ بيضاء لا تشوبها نقطة كرهٍ أو سطرُ حقدٍ أو كلمةً بغض !
استطاع الهجرُ أن يفرّق بينهما ليومين كانت الأطولُ والأكثرُ بؤساً وحماقة , يومين ظلّت فيها جُمل الحياةِ فارغة يتخللها كلّ شيءٍ بارد جامد , شعر بالضيّاعِ حينها وأنّ الحبل السّري الذي كان يمدّه بالغذاء والهواء قد انقطع فبات وحيداً في رحمٍ مُظلم بلا زاد ..
تلك الحجرة التي احتضنت كلّ التفاصيل الجميلة بينهما تشهدُ الآن حيرتهُ , وجوريّةٌ حمراء بقبضتهِ اليُمنى ممسكاً بخصرها وعطرها يعلو مع كلّ نبضة , بتلاتها متداخلة كإخوةٍ يحتمون من البرد بملمسها الناعم الباعث في الروح دفئاً لا شتاء بعده , يقتربُ من تلك الطاولة الصغيرة التي كانت ثالثهما حينَ صمتٍ وحوار , وضع الجوريّة عليها برفقٍ بعد أن همس فيها كلّ عبارات الاعتذار والشّوق ..
لم يضع في الحسبانِ أبداً أن تطول المسافة هكذا وأن يتوقّف الزمنُ ويُصبح بهذا الثقل لكنّه أدركَ بعد أن انطفأت نيرانُ الغضب حجم قسوته التي غلبت تحمّل تلك الجميلة إثرها أجهشت بالبكاءِ ولم يجد سوى بابَ الخروجِ مفرّا ..
هي الآن في حجرةِ النّوم تُغالبُ شوقها وتسترقُ السّمع علّها تلتقطُ من خطواته شيئاً يخصّها خصوصاً وأنّه اتّجه نحو حجرة الجلوس , تروادها أفكارٌ عدّة ووساوسٌ تُرهقها والتي كانت أغلبها شكوكاً أنثويّة أن يكون قد وجدَ وطناً آخر بهذه السّرعة بعد اغتراب , سرعان ما تنفض عن فكرها هذه الأتربة لمعرفتها العميقة بقلب هذا الرّجل الذي تملكُ مفاتيحه مؤبداً , عاشت هذا الصّراعَ طويلاً حتى سمعت صوت باب المنزل وهو يُقفل بعد خروجه ..
لديها شعورٌ كبير أنّه ترك في الحجرةِ شيءٌ منها ولها , اتجّهت مسرعة نحو الحجرة لتجد تلك الجوريّة تنتظرها , حاملةً معها أضلعه , أحتنضتها وكأنّها تحملُ طفلاً ثمّ قبّلتها وقرّبتها من أذنها لتشعر بكلماته وهو يعتذرُ عزفاً وشجنا ! ..
"
"
|