بو النعمان ــ نسمة النوء
لاشك أن اليوم كان شديد العصف والنوء ، مما اعتادت عليه وأنا في السرحة ؛ لكنها ابتسمت ، ثم انسلت بسرعة إلى حجرتها .
حاولت أن تسترد لقطة الرضا التي التقطتها من المرأة العجوز ، وأن تستلذ بشهدها ، وأن تجعل منه قطعة الشهد كالتي كانت تقتطفها من جِباح النحل حين تزهر براعيم الأعشاب في الغابة ، وخاصة تلك التي تعترش أحضان النجود ؛ كانت تستهويها ، فتقطفها بعناية وحنو ، ثم تصنع منها إكليلا تضعه على قنتها ، بعد أن تكون قد رمتها في اتجاه قرص الشمس المبتسم ، فهي الآن أميرة أمازيغة تحتفل بما زين صدرها من وسامي أنوثتها ، وتتمايل في تمايس خيزراني ،فترقص وتطلق صوتها بأرجوزة مما حفظته من مواسم الحصاد التي كانت تقام على ركح الحوش وسط أكواخ القرية .
لم تشط عنها همسة تلك المرأة العجوز وابنتها ، حاولت أن تستجمع لحظتها ، لكن النعاس أقبل مدغدغا ما تحاول استرجاعه من صور المساء ، فاستسلمت لهمسه ، وهي تبتسم ، وراحت مستسلمة لما سيأتي به الوسن ، ولأول مرة حين أقبلت أمها بجرس الصباح ، وجدتها نشيطة مرحة ، فلم ترفع صوتها كما اعتادت من قبل .
استيقظت ميلودة مثل فراشة وهي تشق أحجبة الشرنقة ، نظرت إلى أمها ، وتشوفت إليها ، وكأنها تفعل ذالك لأول مرة ، كما فعلتها ، حين احتضنتها لأول مرة بعد عناء الولادة ، و ميلودة تصرخ مستغيثة ، وهاهي هذا الصباح ترمق أمها لعلها ترى في إشراقة عينيها ما يمكن أن تطمئن له ؛ من ذالك الحلم الذي كاد يصبح كابوسا ، خاصة حين يطرأ طيفه قبيل الفجر ، فتنتفض ،لكنها لم تكن تجد شيئا ، غير الظلمة تلف جسمها النحيل ، فتتعوذ ، وتلعن في همهمة مهموسة حتى لا تزعج أخاها الذي يغط في وسن عميق ، فتتسلل من تحت الغطاء ، وتلتقط برفق محفظته بحنان رقيق ، للحظة يسيرة ، ثم ترجع وسط الظلمة إلى الفراش ، كمن اقتنص لحظة عسرت عليه ، وتحاول أن تغلق عينيها ، وهي والحلم الشقي يداعبهما في عناد .
لم تمهلها أمها ، اقتربت منها ، وعينيها لا تشرد عنهما تلك الإشراقة التي تحير ميلودة كل إسفرار صبح جديد ، لمست خصلات شعرها ، فانتصبت البنت وأدارت بوجهها إلى الناحية الأخرى من الحجرة ، لم تصرخ ميلودة في وجه أمها وهي تمشط شعرها الأشعث ، كما كانت تفعل من قبل ، فقد أحست بأن المشط وأنامل أمها يداعبان شعرها ، كما لم يفعلا ذالك في الماضي ، فتسرب إلى حاسة أنوثتها أن شيئا ما سيحدث هذا الصباح ، وكغير عاداته . لم تمهلها الأم .
ـــ إنك اليوم لن تخرجي بالقطيع إلى السِّرْحَة ؛ فالتفتت إليها ، والقلب يكاد يتفطر من حبسه ، وفي عينيها اللتين لم يفارقهما أثر النعاس ، وعلى وجهها أكثر من علامة استفهام حائرة ، والأم تحملق في صمت يكاد يبين عن أشياء لم تسمعها ميلودة ، حين :
ـــ نعم إنك لن تخرجي إلى السرحة منذ اليوم ؛ ازدادت حيرة ميلودة ، هكذا أمر أبوك ؛
فأحنت ميلودة رأسها ، وانتظرت من أمها أن تتم أوامر الأب :
ـــ هل تذكرين النسوة اللواتي أتين البارحة ،
أجابتها ميلودة ، بهمس يكاد لايسمع
ــ نعم . . نعم ، وهل سأذهب إلى المدرسة مع أخي ؟ فقد كانت تعتقد أن الفرج قد حلت بشائره ، وأن أبواب المدرسة أصبحت مشرعة .
ـــ لقد جاءت النسوة بالأمس ، ليخطبوك لابنهم ؛ انكسرت ميلودة ، وأحنت رأسها وقد احمرت خديها في حياء وحيرة ، بينما الأم تضفر من خصلات شعرها بعناية ، وميلودة ساكنة لم تتحرك ،فقد وقعت عليها كلمات أمها أشد مما كان يحدث لها مع رياح النوء والعاصفة ، وهي تسرع في كل وجهة ، تجمع أفراد القطيع حتى لا تشرد بها ، بينما ها الان ،لاتدري ماذا ستفعل .
حين أحست الأم بأن ابنتها لا تسمعها صوتا ،ربتت على كتفها برقة وحنو :
ـــ لا تجزعي ؟ هذا نصيبنا من الحياة ، فأنا حين قدمت جدتك إلى بيتنا في مثل هذه المناسبة ، لم أكن قد تجاوزت سنك ، لم تكن لي معرفة مسبقة بما سيحدث بعد تلك الزيارة ، ولم لأكن أعرف عن أبيك شيئا ،غير أنه من أبناء المدشر المجاور لقريتنا ؛ ولقد تفاجأت مثلك ، لكن أمي أخبرتني ، كما أفعل الآن أنا ، ولم يكن لي اتصال بأبيك إلا عندما حل موعد العرس ، . . . نعم ،
بينما الأم تحدث ابنتها بما حدث لها ، كانت ميلودة تحاول أن تنسل من حضنها ، كعادتها حين تفاجأ بشيء ما لم تستعد له ، فانسلت ، وتسللت إلى الحوش لعلها تجد قطيعها في الانتظار كما اعتاد ؛ لكنها لما فتحت باب الحوش وجدته خاويا ، فانطلقت في أثره لعلها تلقاه بخير مما هي عليه الآن ، تبعتها أمها كي تسترجعها ، لكنها اختفت بين الأحراش والأشجار مثل فراشة تبحث عن دفء الشمس . بعدما أحست بأن حضن الأم فتر أمام مطمحها الذي كانت تتوق إليه ، وها هي تزف إليها ما لم تكن تتشوف إليه قبل زيارة تلك النسوة مساء البارحة .
الدار ابيضاءاء 16 / 07 2015
__________________
لسنا وإن أحسابنا كرمت 0 0 يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا 0 0 تبني ، ونفعل مثل ما فعلوا
|